بل إن هذا الدين العظيم الذي رحم الله تعالى به العالمين؛ شملت رحمته غير المسلمين، فإذا قيل: إن
بلالاً قد آمن و أسلم؛ فلنقل: إن هذا الدين قد أعطى لأهل الذمة كثيراً من الحقوق، وعلم أهل الذمة -الذين ما عرفوا إلا العبودية- معنى الإنسانية، ولنأخذ مثالاً على ذلك: بعيشة الأقباط تحت حكم الإمبراطورية الرومانية ، فالروم كانت الطبقة العليا منهم هم الأوروبيون الملاك البيض، فهذه فئة معينة، ومن عداهم كانوا عبيداً، ومن هؤلاء العبيد يتكون الجنود، فكان على كل سيد أن ينتدب عدداً معيناً من العبيد ليكون جندياً في الإمبراطورية، وهؤلاء العبيد يفتحون البلاد فيستعبدون أهلها، فيكون الأقباط، ويكون
النصارى الذين هم في بلاد
الشام عبيداً للعبيد، فهذه هي قيمتهم عند الدولة الرومانية.وقد حرر الإسلام هذه العقول، فعندما دخل
عمرو بن العاص إلى
مصر وحدثت بين أحد أبنائه وبين أحد الأقباط مشكلة؛ فقال ابنه: أنا ابن الأكرمين، فالأقباط الذين ذاقوا مرارة العبودية القرون الطويلة تعلموا في سنوات أن يشكوا من هذه الكلمة، وتعلموا أن يركبوا الإبل ويضربوا أكبادها من
مصر إلى
المدينة ؛ ليشتكوا من هذه الكلمة، فالإسلام غير القلوب والمشاعر والمفاهيم كلها، فأتوا إلى
عمر رضي الله تعالى عنه وحكوا له ما حدث، فلم يقل
عمر رضي الله عنه: إن
عمرو بن العاص هو الذي فتح البلاد، وهزم الروم في أجنادين وفي غيرها، ولم يقل: نحن الذين دعوناكم إلى الإسلام، ونحن الذين أعتقناكم من رق العبودية الرومانية! أبداً، وإنما أمر بالقصاص، وجعل يقول لابن
عمرو بن العاص: [
خذها وأنت ابن الأكرمين].فالإسلام علم هؤلاء، فمن أسلم منهم فإنه ينال كل الخير، ومن لم يسلم منهم فإنه يعيش في كرامة، وفي منعة، محفوظ العرض والمال، ولا يمكن أن ينال أو يؤخذ إلا بحكم شرعي، وبموجب الشروط التي جعلها الله تبارك وتعالى في كتابه في آية الجزية، ثم فصلها النبي صلى الله عليه وسلم في بعض ما كتب لوفد
نجران وغيره، ثم جاء
عمر رضي الله تعالى عنه ففصل تفصيلاً أكثر في عهده الذي كتبه لأهل
بيت المقدس ، والذي يعرف في التاريخ باسم: الشروط العمرية.فمن مقتضى هذه الشروط يعاملون، ولا حيف ولا جور عليهم على الإطلاق، ولا يستطيع أحد أن يمنعهم من إقامة شيء مما سمح لهم أن يقيموه من شعائر دينهم بالشروط المعينة، ولا يستطيع أحد من المسلمين أن يجور عليهم، أو يحيف، أو يعتدي على مال لهم، أو على عرض في أي حال من الأحوال؛ ولذلك بقي
النصارى في
العراق ، وبقوا في
الشام ، وبقوا في
مصر ، وبقوا في
الأندلس ، وكذلك بقي
اليهود إلا في
جزيرة العرب ؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (
لا يجتمع فيها دينان )، فأخرجوا.فكانوا أهل
نجران أكثر طائفة في
جزيرة العرب من
النصارى ، وقد أسلم أكثرهم، ومن بقي منهم ولم يسلم أخرج وأجلي إلى بلاد
الشام ، وهذا من حكم الله.فالمهم أنه لم يخالف فيهم حكم الله عز وجل، بل أقيم فيهم كما أمر الله، وكما أنزل الله، لا كما يريد الفاتحون، ولا كما يريد
عمر رضي الله تعالى عنه، أو
خالد ، أو
سعد ، أو
عمرو بن العاص ، وإنما كما شرع الله عز وجل، فالحكم الذي يطبق عليهم هو الحكم الذي يطبق على أي مسلم، وهو حكم الله عز وجل، ولم يضعه برلمان، ولا هيئة تشريعية من غيرهم فتظلمهم؛ لأنهم ليس لهم من يمثلهم فيها، ولم يضعه هوى حاكم من الحكام كما كان يفعل حكام
أوروبا ، وإنما هو شرع الله، ودين الله رب العالمين، فما أعطاهم الله تعالى من الحقوق أخذوه.